بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه مخلصين له الدين وأرسل الرسل إليهم وأنزل الكتب عليهم لهدايتهم بنور العلم واليقين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار القهار الواهب الرزاق ذو القوة المتين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الناصح الأمين. صلى الله عليه وعلى آله الأتقياء المخلصين وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد فهذا كتاب جمعت فيه الأحاديث النبوية الواردة في ذكر الجن والشياطين على ضوء ما أخبرنا به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام
وقد اقتصرت على مارواه البخاري ومسلم في صحيحيهما حتى يكون الكتاب موجزا مختصرا وقمت بنقل شرح العلماء للأحاديث النبوية
فما كان منها في صحيح البخاري اكتفيت بشرح الحافظ بن حجر، و ماكان منها في
صحيح الإمام مسلم اكتفيت بشرح الامام النووي .
والله اسأل أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب .
بسم الله الرحمن الرحيم
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا صحيح البخاري
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :
قَوْله : ( اِبْغِنِي )
قَالَ اِبْن التِّين : هُوَ مَوْصُول مِنْ الثُّلَاثِيّ تَقُول : بَغَيْت الشَّيْء طَلَبْته وَأَبْغَيْتُك الشَّيْء أَعَنْتُك عَلَى طَلَبه .
قَوْله : ( وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْد جِنّ نَصِيبِينَ )
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَرًا عَمَّا وَقَعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَرًا عَمَّا مَضَى قَبْل ذَلِكَ , وَنَصِيبِينَ بَلْدَة مَشْهُورَة بِالْجَزِيرَةِ , وَوَقَعَ فِي كَلَام اِبْن التِّين أَنَّهَا بِالشَّامِ وَفِيهِ تَجَوُّز , فَإِنَّ الْجَزِيرَة بَيْن الشَّام وَالْعِرَاق , وَيَجُوز صَرْف نَصِيبِينَ وَتَرْكه .
قَوْله : ( فَسَأَلُونِي الزَّاد )
أَيْ مِمَّا يَفْضُل عَنْ الْإِنْس , وَقَدْ يَتَعَلَّق بِهِ مَنْ يَقُول إِنَّ الْأَشْيَاء قَبْل الشَّرْع عَلَى الْحَظْر حَتَّى تَرِد الْإِبَاحَة , وَيُجَاب عَنْهُ بِمَنْعِ الدَّلَالَة عَلَى ذَلِكَ , بَلْ لَا حُكْم قَبْل الشَّرْع عَلَى الصَّحِيح .
قَوْله : ( فَدَعَوْت اللَّه لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَة إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طُعْمًا )
فِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ " إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا " قَالَ اِبْن التِّين : يَحْتَمِل أَنْ يَجْعَل اللَّه ذَلِكَ عَلَيْهَا , وَيَحْتَمِل أَنْ يُذِيقهُمْ مِنْهَا طَعَامًا . وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود عِنْد مُسْلِم " إِنَّ الْبَعْر زَادُ دَوَابّهمْ " وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حَدِيث الْبَاب لِإِمْكَانِ حَمْل الطَّعَام فِيهِ عَلَى طَعَام الدَّوَابّ .
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ (هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ صحيح البخاري
قال الحافظ ابن حجر:
حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي تَفَلُّت الْعِفْرِيت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْله : ( تَفَلَّتَ عَلَيَّ )
بِتَشْدِيدِ اللَّام أَيْ تَعَرَّضَ لِي فَلْتَة أَيْ بَغْتَة .
قَوْلُهُ : ( الْبَارِحَة )
أَيْ اللَّيْلَة الْخَالِيَة الزَّائِلَة , وَالْبَارِح الزَّائِل وَيُقَال مِنْ بَعْد الزَّوَال إِلَى آخَر النَّهَار الْبَارِحَة .
قَوْله : ( فَذَكَرْت دَعْوَة أَخِي سُلَيْمَان )
أَيْ قَوْله : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) وَفِي هَذِهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ رِعَايَة لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام , وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون خُصُوصِيَّة سُلَيْمَان اِسْتِخْدَام الْجِنّ فِي جَمِيع مَا يُرِيدهُ لَا فِي هَذَا الْقَدْر فَقَطْ , وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ أَصْحَاب سُلَيْمَان كَانُوا يَرَوْنَ الْجِنّ فِي أَشْكَالهمْ وَهَيْئَتهمْ حَال تَصَرُّفهمْ , قَالَ : وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) فَالْمُرَاد الْأَكْثَر الْأَغْلَب مِنْ أَحْوَال بَنِي آدَم , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَفْي رُؤْيَة الْإِنْس لِلْجِنِّ عَلَى هَيْئَتهمْ لَيْسَ بِقَاطِع مِنْ الْآيَة بَلْ ظَاهِرهَا أَنَّهُ مُمْكِن , فَإِنَّ نَفْي رُؤْيَتنَا إِيَّاهُمْ مُقَيَّد بِحَالِ رُؤْيَتهمْ لَنَا وَلَا يَنْفِي إِمْكَان رُؤْيَتنَا لَهُمْ فِي غَيْر تِلْكَ الْحَالَة , وَيُحْتَمَل الْعُمُوم . وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَكْثَر الْعُلَمَاء حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنّ أَبْطَلْنَا شَهَادَته , وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْله : ( عِفْرِيت مُتَمَرِّد مِنْ إِنْس أَوْ جَانّ مِثْل زِبْنِيَة جَمَاعَته زَبَانِيَة )
الزَّبَانِيَة فِي الْأَصْل اِسْم أَصْحَاب الشُّرْطَة , مُشْتَقّ مِنْ الزَّبْن وَهُوَ الدَّفْع , وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَلَائِكَة , ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الْكُفَّار فِي النَّار , وَوَاحِد الزَّبَانِيَة زِبْنِيَة وَقِيلَ : زَبْنِي وَقِيلَ : زَابِن وَقِيلَ : زَبَانِي وَقَالَ قَوْم لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه وَقِيلَ وَاحِده زِبْنِيت وَزْن عِفْرِيت , وَيُقَال عِفْرِيَة لُغَة مُسْتَقِلَّة لَيْسَتْ مَأْخُوذَة مِنْ عِفْرِيت , وَمُرَاد الْمُصَنِّف بِقَوْلِهِ : " مِثْل زِبْنِيَة " أَيْ أَنَّهُ قِيلَ فِي عِفْرِيت عِفْرِيَة , وَهِيَ قِرَاءَة رُوِيَتْ فِي الشَّوَاذّ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق , وَعَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ وَأَبِي السِّمَال بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّام , وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عِفْرِيَة مُصَوِّب فِي ظَلَام اللَّيْل مُنْتَصِب وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِير مِنْ بَيَان أَحْوَال الْجِنّ فِي " بَاب صِفَة إِبْلِيس وَجُنُوده " مِنْ بَدْء الْخَلْق . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الْجِنّ عَلَى مَرَاتِب , فَالْأَصْل جِنِّيّ , فَإِنْ خَالَطَ الْإِنْس قِيلَ : عَامِر , وَمَنْ تَعَرَّضَ مِنْهُمْ لِلصِّبْيَانِ قِيلَ : أَرْوَاح , وَمِنْ زَادَ فِي الْخُبْث قِيلَ شَيْطَان , فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ : مَارِد , فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ : عِفْرِيت . وَقَالَ الرَّاغِب : الْعِفْرِيت مِنْ الْجِنّ هُوَ الْعَارِم الْخَبِيث , وَإِذَا بُولِغَ فِيهِ قِيلَ عِفْرِيت نِفْرِيت . وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : الْعِفْرِيت الْمُوثَق الْخَلْق , وَأَصْله مِنْ الْعَفَر وَهُوَ التُّرَاب , وَرَجُل عِفِرّ بِكَسْرِ أَوَّله وَثَانِيه وَتَثْقِيل ثَالِثه إِذَا بُولِغَ فِيهِ أَيْضًا .